تحليل رواية في الطفولة لعبد المجيد بن جلون (القراءة التوجيهية والتحليلية)

أولا: القراءة التوجيهية لرواية في الطفولة لعبد المجيد بن جلون

- تحديد جنس المؤلف ( تعريف السيرة الذاتية):

1. تعريف فن السيرة:

      يعد أدب السيرة من الأجناس الأدبية في الآداب الغربية ، إذ اخذ طريقه إلى الأدب العربي مع ما ظهر من تلك الأنواع كفن القصة نتيجة الاتصال المباشر معها. 

ويعرف أنيس المقدسي السيرة بأنها »نوع من الأدب يجمع بين التحري التاريخي والإمتاع القصصي ويراد به درس حياة فرد من الأفراد ورسم صورة دقيقة له  « . وكذلك هو »كتاب يروي حياة المؤلف بقلمه وهو يختلف مادة ونهجا عن المذكرات أو اليوميات  « 

2. أنواع السيرة:

1.2. سيرة ذاتية: تدور على حياة كاتبها،يقول عبد المجيد بن جلون في نهاية سيرته:( وبعد،فإن قصة طفولتي يجب أن تقف هنا،...)( ص278). وتعرف في اللغات الغربية بـ "الأوتوبيوغرافيا". وقد أجمع المؤرخون على صعوبة إيجاد تعريف جامع لهذا النوع نظرا لما يثيره من إشكالات عديدة تتعلق بعلاقة هذا الجنس الأدبي بغيره من الأجناس الأدبية كالمذكرات واليوميات والرواية...ومن النقاد الذين اهتموا بالسيرة الذاتية وعرفوها إحسان عباس إذ يقول: » هي حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة« 

2.2. سيرة موضوعية أو غيرية: تدور حول شخص آخر، فهي السيرة التي يترجم فيها الكاتب لغيره من الشخصيات البارزة السابقة   » ومهما  كان نوعها فإنها لا تكتسب صفة السيرة بمعناها الحقيقي إلا إذا كانت تفسيرا للحياة الشخصية في جوها التاريخي «  .

وقد بين فيليب لوجون أن»شكل الكلام وهو سرد لحياة صاحب السيرة، كما بين موضوع السيرة، وهو حياة الكاتب بصفة خاصة كذلك بين وجوب التطابق بين المؤلف والراوي والشخصية الرئيسية في السيرة.

     وتجدر الإشارة إلى أن سيرة عبد المجيد بن جلون تشبه سيرة " الأيام" لطه حسين وسيرة " حياتي" لأحمد أمين. ويمكن أن نعتبر " في الطفولة " لعبد بن جلون نصا روائيا لكونه يجمع بين التوثيق والتخييل، وبين المتعة الفنية وسرد الحقائق التاريخية. كما أن النص يخضع لكل مقومات الحبكة السردية وخصائص الكتابة الروائية فضلا عن توظيف خاصية التشويق والإمتاع الفني وتطويع السرد لخدمة المضمون والاعتراف الذاتي، ومن ثم يمكن القول: إن في الطفولة كتاب يجمع بين السيرة الذاتية والكتابة الروائية. 

3. التعريف بالمؤلف: 

     عبد المجيد بن جلون (1919/1981)كاتب مغربي،اتسمت كتاباته بالتنوع بين الأجناس الأدبية المختلفة.وقد ترك لنا مؤلفات ونصوصا تُعَرِف قارِئها بالكثير عن المغرب:عن أهله وثقافته،وعن فترة الاستعمار الفرنسي،وعن مقاومة المغاربة له ونضالهم من أجل الاستقلال. 

     ولد عبد المجيد بن جلون بالدار البيضاء،لكنه قضى طفولته مع أسرته في إنجلترا،ثم عاد به والده إلى فاس،حيث التحق بجامعة القرويين،ثم أرسل للدراسة في جامعة القاهرة التي نال منها الدبلوم العالي للصحافة.

     وفي القاهرة،أسس عبد المجيد بن جلون مكتب المغرب العربي عام 1947،وتولى أمانته العامة.وبعد أن نال المغرب الاستقلال،عاد ليترأس تحرير جريدة العلم.ثم عمل سفيرا للمغرب في باكستان،وعاد إلى وطنه عام 1961 ليواصل العمل في وزارة الخارجية،دون أن ينقطع عن الكتابة والترجمة والنشر في الصحف المغربية                             .

     من مؤلفات عبد المجيد بن جلون: وادي الدماء، لولا الإنسان (قصص)، هذه مراكش، مارس استقلالك، براعم (ديوان شعري)، وسيرته الذاتية في الطفولة نشرت لأول مرة في حلقات أسبوعية بمجلة رسالة المغرب1949.وقد كانت السيرة الذاتية في ذلك الوقت لونا جديدا من الكتابة وفتحا في الأدب المغربي،الذي يعد عبد المجيد بن جلون أحد أهم رواده المحدثين. وكانت آخر أعماله المنشورة قبل وفاته قصيدة بعنوان زروق ينساب، سنة 1961. 

4. دلالة العنوان:

    تختلف عناوين السير الذاتية اختلافا كبيرا من حيث صيغتها ومكوناتها ومقوماتها  وبحسب هذا الاختلاف تتنوع الدلالات التي يمكن أن يحيل عليها.

    جاء عنوان مؤلف في عبد المجيد بن جلون "في الطفولة" عبارة عن جملة اسمية، المبتدأ فيها محذوف،وشبه الجملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر.والخبر متعلق بالمبتدأ الذي يمكن تقديره هكذا:في الطفولة أحداث،أخبار،معلومات...وهكذا فإن غياب المبتدأ يحمل للمتلقي على تقدير العنصر الغائب،وهو ما يمكن أن يحفزه على الافتراض والتوقع.أما حرف الجر (في) فحامل لدلالة زمانية.ومن هنا يمكن القول:إن العنونة زمانية لأنها تقْصر عمل المؤلف على رصد مرحلة من مراحل عمر كاتبها وهي الطفولة. فلو جاء العنوان مجردا من حرف الجر لصارت دلالة العنوان،والمؤلف برمته،دالة على مطلق الطفولة،وهو ما يدفع النتلقي إلى الاعتقاد بأن العمل الأدبي يغطي مرحلة الطفولة كلها،وهو ما لا يقصده المؤلِف بدليل قوله في النص الختامي:" وهذه السطور التي كتبتها بعيدة عن الاستقراء،وإن كانت وافية المعالم" (ص 278).

    وضع العنوان في أسفل الغلاف،وكتب بخط ولون مميزين حتى تكون له الإثارة البصرية المطلوبة.

5. دلالة الغلاف: 

1.5. صورة الغلاف:

    يتكون الغلاف من مشهدين:

مشهد سفلي: يتكون من صورة حائط وقد كسر جزؤه الأوسط العلوي،بالإضافة إلى صورة بلاط يتكون من يتكون من معالم تزيينية مغربية (الزليج في صورة غير واضحة).

مشهد علوي: هو عبارة عن انعكاس مرآوي لبعض معالم المشهد السفلي،تماما كما لو أن المشهد الأول ينتمي إلى زمن مضى،وأن المشهد الثاني ذو صلة بالحاضر. 

ويمكن أن نجد صلة بين صورة الغلاف وطبيعة السيرة الذاتية:إن السيرة رؤية حالية لما عاشه الكاتب في زمن ولى وانتهى.ويتعذر عليه استرجاعه بتفاصيله كما لو كان جدارا منيعا يستدعي خرمه لرؤية ما يحجبه ويخفيه.

2.5. ظهر الغلاف:

   ارتبط ظهر الغلاف بمعطيين اثنين،أحدهما تلفظي والآخر بصري (صورة).والواضح أن الغلاف يخلو من أي مقطع تمثيلي من نص السيرة الذاتية.فالتلفظي يرسم حياة المؤلف عبد المجيد بن جلون، تَم التركيز فيه على تاريخ ميلاده،وإقامته في انجلترا والشهادات التي حصل عليها،مساهماته في المجلات السياسية والحزبية والديبلوماسية التي باشرها المغرب قبل الاستقلال وبعده.كما أشار إلى أهم مؤلفاته المتداولة. 

أما على المستوى البصري،فقط أُثْبتت للكاتب صورة وقد تقدم به العمر،لكن مع ملاحظة دلالة كون الصورة غير ملونة.والغرض من وضع الصورة خلق نوع من التطابق بين شخصية السيرة الذاتية وبين ما يمثله بعدها الواقعي والمرجعي.

6. المناصات:

  • المقدمة:

    تشكل المقدمة أحد أنواع الخطابات التي تحتل موقعا ماديا حول النص،نظرا لوجودها المستقل في فضاء الكتاب نفسه،شأنها شأن الإهداء والاستشهاد والعناوين..فهي نص استهلالي يمثل خطابا سابقا لنص معين أو لاحق له...

    وفي مؤلف "في الطفولة"،نجد كل خصائص المقدمة.فهي تنتمي إلى صنف النصوص الاستهلالية،وهي بذلك تحتل موقعا منفصلا عن متن السيرة الذاتية.إنها تنتمي إلى نوع المقدمات الغيرية؛لأن كاتبها هو الأديب المغربي أحمد عبد السلام البقالي،وليس كاتب السيرة الذاتية في الطفولة.

    وتتميز  هذه المقدمة بأسلوب سردي أدبي،ووجود ثلاثة ضمائر تحيل على المتكلم "أنا"،والمقدم له "هو"،وابن المقدم له "هو".ولعل لضمير المتكلم المفرد سلطته النحوية المتمثلة في فرض نفسه كاتبا ومؤهلا لتقدم المؤلف.

ثانيا: القراءة التحليلية لرواية في الطفولة لعبد المجيد بن جلون

    يعتمد في تحليل النصوص السير ذاتية،على المنظورات الستة المثبتة في كتاب فيالا وشميت. وفيما يلي نظرة مجملة عنها:

1. تتبع الحدث: يهم هذا المنظور جرد الأحداث وفق تسلسلها المنطقي في المؤلف،ثم إبراز الرهان المتوخى من سردها،ثم تبيان دلالتها ومغزاها.

2. تقويم القوى الفاعلة: بعد استخراج القوى الفاعلة،تتحدد علاقاتها ومنازلها في البنية العاملية، ويكشف عن وجهة نظر السارد.

3. الكشف عن البعد النفسي:تحلل المواضيع النفسية،وتوضح دلالات الأبعاد النفسية وانعكاساتها على سلوك القوى الفاعلة ومواقفها من الوجود.

4. تحليل البعد الاجتماعي: يعمل هذا المنظور على استجلاء المعطيات الاجتماعية والتاريخية المضمنة في المؤلف،ويستدعي إبراز الحقل الاجتماعي والتاريخي،وبيان طبيعة العلاقة التي ينسجها المؤلف مع المجتمع والتاريخ.

5. تعرف الأسلوب: ينصب هذا المنظور على إبراز المستويات والسجلات اللغوية المستثمرة في النص.

6. استخراج البنية: تحدد بنية المؤلف بالنظر إلى خصوصية تركيبته، وتعاقب متوالياته ووحداته،وطبيعة تنظيمه الزمني والموضوعاتي.

- تتبع الحدث:

1. المتن الحكائي:

        تحكي "في الطفولة" مسيرة حياة طفل مغربي تنَّقل بين بيئتين مختلفتين وما صاحب كل ذلك من بحث عن الذات وخلق نوع من التوازن بين ذاكرة مشبعة بثقافة غريبة قوية وبين واقع متخلف لكنه جزء من عواطف الكاتب وحقيقة حياته وملابساتها.

ولد الكاتب في مدينة الدار البيضاء وقضى فيها بضعة أشهر قبل أن يهاجر صحبة والديه إلى مدينة منشستر،بإنجلترا، وقد كان ذلك بعد الحرب العالمية الأولى.اشتغل أبوه بالتجارة وسط جالية مغربية.

في مانشستر سيسعد الكاتب بأمرين اثنين: ميلاد أخته أمينة وتعرفه إلى عائلة انجليزية (آل باترنوس) جعلت من منزلها مكانا عزيزا على قلبه.وهناك سيقف على الفروق الجوهرية بين طبيعة المغاربة (المراكشيين) وطبيعة سكان الإنجليز (سكان منشستر) مع التركيز على مظاهر الاختلاف.ولعل أهم ما ميز حياة الطفل في هذه الفترة التكيف الكامل مع نظام الحياة الغربية في مقابل الارتباط الشديد والحنين الجارف الذي وسم علاقة أمه ببلدها الأصلي.وقد بقي الطفل مرتبطا بهذه البيئة الغربية دون أن يحس بحالة المفارقة التي كانت تنتاب أمه مثلا وهي تستعيد ذكرياتها بالمغرب،خاصة حينما تجتمع مع غيرها من المغربيات...

ولعل صدمة الكاتب كانت قوية لما قررت عائلته العودة إلى المغرب بشكل نهائي،بل إن أثر هذا الانقلاب سيكون مدويا عليه وسيجعله يشعر باليتم والغربة مادامت البيئة الغربية هي التي شكلت سماءه وأرضه.وإذا كان الكاتب قد وجد صعوبة جمة في تقبل حاضره،وبقي متعلقا بماضيه،فإنه سرعان ما بدأ مرحلة جديدة،هي وسط بين الطفولة والمراهقة،سيتمكن خلالها من إحداث القطيعة مع ذكريات الماضي ليستقر وعيه على حاضره مع ما رافق ذلك من تربية مكنته من الاندماج في بيئة المدينة التقليدية وسط عائلة محافظة..ومما أسعف الكاتب في الانغراس في واقعه الجديد تعرفه أصدقاء جددا،خاصة زملاءه في الكُتَّاب،وبداية ولعه بكرة القدم.

ولما التحق بجامع القرويين وجد فيه مرتعا لكثير مما كان ينقصه من معارف عربية تتعلق بعلوم التوحيد والنحو وغيرها.وإذا كانت هذه العلوم لم تجد في نفس الشاب هوى،فقد كان لأحد العلماء الوطنيين دوره في تغيير حياة الشاب.فقد أصبح الأدب موضوعه الأول...ومن آثار ذلك على نفسه أنه شارك في بعض أعمال الوطنيين،فقد اندس بين زمرة منهم فقاموا بتحدي حاكم مدينة فاس فاعتُقِلوا جميعا ليقضي صحبتهم شهرا كاملا في السجن.

غير أن سفر الكاتب إلى القاهرة مرورا بوجدة ووهران ومرسيليا والإسكندرية اعتبر حدثا هاما في حياته لأنه سيكون بمثابة قطيعة بين مرحلتين (الطفولة والمراهقة) وبداية مشوار سيحقق للكاتب اندماجا كليا مع ثقافته العربية.إن سفر الكاتب إلى القاهرة جاء تلبية لنداء داخلي وتحقيقا لرغبة موضوعية أثمرتها قراءته للمجلات المصرية التي كانت ـ وقتئذ ـ تصل مدينة فاس.

2. الحبكة:

     الحبكة هي النسيج الذي يرصد الأحداث في اتصالها وانفصالها واتجاهاتها، وتنقسم إلى تقليدية تتوالى فيها الأحداث بشكل متسلسل، وأخرى مفككة لا تخضع لتسلسل منطقي، ويبدو أن الحبكة المعتمدة في سيرة "في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون. يفتتح عبد المجيد بن جلون روايته في الطفولة عن أيام ولادته وكيف شرع في الحياة ثم يروي لنا حكاية سفره إلى إنجلترا بمدينة منشستر بالضبط والرجوع إلى القاهرة في نهاية المطاف . 

Mohamed Ben Chaayab
Mohamed Ben Chaayab
تعليقات