تقديـــــم:
إن قراءة مؤلف نقدي في حجم مؤلف" ظاهرة الشعر الحديث" قراءة تحليلية جادة، تشترط فضلا عن قراءة المؤلف قراءة متأنية حيزا زمنيا واسعا وهو الشرط الذي ينعدم أو يكاد ، فإذا ما أجملنا الحصص المخصصة لقراءة هذا المؤلف من مجموع حصص اللغة العربية، وإذا ما نحن استثنينا منها أيام العطل والإضرابات وجدنا أنفسنا حيارى في الطريقة والكيفية التي بإمكاننا كأساتذة أن ندرس بها هذا المؤلف، وتزداد الحيرة وتتعقد المأمورية حينما تفاجئنا شريحة كبرى من التلاميذ بعدم قراءته أو قراءة جزء منه فقط ولربما أحيانا الاكتفاء فقط بالتلاخيص وما تجود به شبكة الأنترنت.
ولما كان الأمر على هذا المنوال وجدت نفسي مكرها لا بطلا على تبسيط هذا المؤلف في هذه القراءة السطحية العابرة والتي ستركز بالأساس على ما يتضمنه المؤلف من أفكار نقدية تكون أرضية للمناقشة داخل الفصل بحول الله،وهي قراءة سطحية سنجمع فيها إنشاء الله كل ما اختمر من أفكار حول هذا المؤلف انطلاقا من قراءة شخصية أغناها التواصل المفتوح مع الأساتذة جزاهم الله خيرا و ما جاد به التلاميذ من آراء وأفكار طيلة سنة بأكملها.
وقبل البدء اعلم عزيزي(تي) التلميذ(ة) أن هذه القراءة المتواضعة لا يمكن أن تفيدك ولن تفيدك في شيء إذا ما أنت تجاهلت هذا المؤلف وعزفت عن قراءته، فهذه القراءة لن تغنيك عن المؤلف بل ستبسطه لك وتمهد لك الطريق لفهمه وتغنيك عن كتابة الملخص داخل الفصل حتى تكون عملية تدريسنا له سريعة من جهة و نستطيع توفير حيز زمني للمناقشة معكم من جهة أخرى.
أولا: القراءة التوجيهية
1. التعريف بالناقد
ولد أحمد المعداوي سنة 1936م بالدار البيضاء، وتلقى دراسته الابتدائية والثانوية بين الدار البيضاء والرباط،. وحصل على الإجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق، كما نال دبلوم الدراسات العليا من جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1971م تحت إشراف الدكتور أمجد الطرابلسي، وكان موضوع الرسالة هو: “حركة الشعر الحديث بين النكبة والنكسة (1947-1967م)”، كما حضّر دكتوراه الدولة حول أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، ونوقشت الأطروحة كذلك بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط.وقد مارس أحمد المعداوي الملقب بأحمد المجاطي كتابة الشعر والنقد، كما امتهن التدريس بجامعة محمد بن عبد الله بفاس منذ 1964م ، وبعد ذلك انتقل للتدريس بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط،، وكان من المؤسسين الأوائل لحركة الحداثة في الشعر بالمغرب، وقد فاز بجائزة ابن زيدون للشعر التي يمنحها المعهد الإسباني/ العربي للثقافة بمدريد لأحسن ديوان بالعربية والإسبانية لعام 1985م على ديوانه الشعري “الفروسية” 3. كما فاز بجائزة المغرب الكبرى للشعر سنة 1987م، وانتخب رئيسا لشعبة اللغة العربية بكلية الآداب بالرباط منذ 1991م، وكان عضوا بارزا في تحرير مجلة” أقلام” المغربية التي كان يترأسها كل من عبد الرحمن بن عمرو وأحمد السطاتي ومحمد إبراهيم بوعلو، ومثل المغرب في مهرجانات عربية عدة. و توفي أحمد المجاطي سنة 1995م بعد سنوات زاهرة بالعطاء التربوي والبيداغوجي ،ومزدانة بالعمل والاجتهاد والإبداع والكتابة والنقد.
2. قراءة في عنوان المؤلف
من النصوص الموازية التي ازداد الاهتمام بها في نظرية التلقي، نص العنوان لما له من قيمة في توجيه التلقي وجهة التلقي السليمة، فيكفي أحيانا أن تقرأ عنوان الكتاب لتحدد جنسه وموضوعه، فعنوان هذا المؤلف على سبيل المثال "ظاهرة الشعر الحديث" يؤشر على أن هذا الكتاب يندرج ضمن المؤلفات النقدية التي تعالج موضوع الشعر الحديث، كظاهرة أدبية بارزة وجديرة بالدراسة والتحليل، ووصف الشعر الحديث هنا بالظاهرة، يكشف عن موقف صاحب الكتاب من الموضوع، لأن وصف الشيء بالظاهرة اعتراف بعظمته وشموخه وبروزه، فعندما نقول فلان ظاهرة رياضية، يعني ذلك أنه موهبة زمانه في المجال الرياضي، هذا من جهة ومن جهة أخرى فالعنوان مضلل لمن اعتاد أن يستعمل مصطلح الشعر كمقابل للشعر الذي ظهر بعد القرن 19، لأن الناقد يقصد به هنا الشعر المعاصر أو شعر الحداثة الذي جاء بعد النكبة التي وافقت سنة 1948.
3. العلاقة بين ظاهرة الشعر الحديث وأزمة الحداثة في سطور
مؤلف ظاهرة الشعر الحديث قبل أن يكون مؤلفا نقديا كان في الأصل بحثا تقدم به صاحبه لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، وفيه تناول الناقد بالدرس والتحليل حركتين تجديديتين ظهرتا في القرن العشرين وشكلتا جوهر الشعر الحديث، الحركة الأولى هي حركة الإبداع الرومنسي التي يمتلها شعراء الديوان والرابطة القلمية و أبولو، وهي حركة في نظر الناقد انتهت نهاية محزنة على صعيدي المضمون والشكل لأن المضامين غلب عليها البكاء والشكوى والتفجع، والشكل لم يستطع الصمود أمام ضربات النقد المحافظ، أما الحركة الثانية فهي حركة الحداثة التي استطاعت أن تهدم الشكل الشعري القديم وتقيم على أنقاضه صرحا شعريا جديدا، إنه مؤلف وليد انبهار إلى حد الهوس بموجة الحداثة التي اكتسحت الساحة الأدبية في المغرب، وهو انبهار دفع الناقد إلى تمجيد شعر الحداثة شكلا ومضمونا على حساب الشعر الذي جاء به شعراء التيار الذاتي يقول مؤكدا صحة هذا الكلام في مقدمة كتاب أزمة الحداثة "ولكننا معشر النقاد أنصار هذه الحركة والمنبهرين بها إلى حدود التماهي والاستلاب قد اعتبرنا ذلك ذلك النصر نصرا شعريا خالصا إلى درجة أن علاقتنا به ألغت كل علاقة بما عداها من الحركات الشعرية" ص5. أمــا مؤلف أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث الذي يعود أصله
إلى الأطروحة التي تقدم بها المجاطي لنيل هادة الدكتراه، عشرين سنة بعد صدور المؤلف الأول فيمكن القول بأنه قراءة جديدة للشعر المعاصر بعيون جديدة وبذهنية جديدة حالية من الأحكام المسبقة الجاهزة، يقول الناقد " بعد ذلك قررت أن أعود إلى ذلك المثن وما سيكتب بعده من شعر لأقرأه بعيون جديدة، وكان لا بد أن أخلي ذهني من كل القناعات التي ترسبت فيه حول موضوع الحداثة الشعرية لأبدأ من نقطة الصفر" أزمة الحداثة صفحة 6.
إنه كتاب جاء ليجيب على ثلاثة أسئلة وهي على التوالي:
* ماذا أضاف الشاعر العربي المعاصر إلى ايقاع القصيدة العربية؟ وهو سؤال نجد الإجابة عنه في قول الناقد" هي بنية إيقاعية تعاني من أزمة ذاتية بسبب ما أثبتناه من أنها لم تأتي بجديد" أزمة الحداثة ص11
*ماذا أضاف إلى تركيبها اللغوي؟ بخصوص هذا السؤال يعتقد الناقد المجاطي بأن ثمة فرقا شاسعا بين اللغة كما تقدمه تنظيرات الحداثة وبين اللغة كما يقدمها المثن الشعري، بمعنى أن المثن الشعري لم يستطع أن يفجر الأشكال الشعرية التي وعد الشاعر بتفجيرها، وبقيت اللغة محكومة بما كانت محكومة به من قواعد البلاغة والصرف والتركيب.
* ما هي رسالة شعر الحداثة المتميزة إلى جمهوره؟ بخصوص هذا السؤال يؤمن المجاطي بأن الشعر المعاصر يعاني من أزمة رسالة، سواء في تجربة الغربة والضياع، التي يقول عنها" إنها تجربة تفتقر إلى الصدق وإلى الأصالة بحكم عدم صدورها عن وجدان الشاعر بل عن انبهار متسرع بفكر وأدب أجنبيين" ص16، أو حتى في تجربة الموت والحياة، التي فشلت في تحقيق مشروعها المتمثل في إعادة إحساسنا بالموت إلى إحساس بالحياة ، والسبب في اعتقاد الناقد هو توظيف أساطير مستمدة من تراث أجنبي لا علاقة له بالثقافة العربية الإسلامية يقول: " فهل استطاع الشاعر العربي الحديث عن طريق توظيف أسطورة الموت والحياة أن يرتفع بشعره إلى مستوى موت الحضارة العربية وبعثها ؟ والجواب لا، لعدة عوامل أولها أن هذه الأساطير مستمدة من تراث أجنبي لا علاقة له بالثقافة العربية الاسلامية التي شكلت وجداننا وذوقنا..." ص 16
وعموما يمكن القول بأن بين المؤلف الأول والثاني تناقضا كبيرا، لأن المؤلف الأول كشف لعظمة رسالة شعر الحداثة على صعيدي الشكل والمضمون ، بينما المؤلف الثاني جاء ليكشف هشاشة هذا الشعر سواء على مستوى الايقاع أو اللغة أؤ الرسالة الشعرية.
ثانيا: القراءة التحليلية
تمهيد:
مؤلف "ظاهرة الشعر الحديث" ، مؤلف نقدي يتناول فيه صاحبه حركتين تجديديتين في الشعر العربي الحديث،الأولى واجهت القصيدة العربية وهي تتمتع بالقوة والتماسك فكان التجديد عندها نسبيا تدريجيا والثانية واجهت القصيدة العربية بعد أن زالت عنها صفة القداسة وفقدت بعضا من تماسكها الداخلي، ولكن بتحيز أكبر إلى الحركة التجديدية الثانية التي تزامنت مع نكبة فلسطين 1948،فالناقد خصص الفصل الأول المعنون ب" التطور الدريجي في الشعر الحديث" لدراسة الحركة التجديدية الأولى والتي تمتلها أشعار كل من جماعة الديوان والرابطة القلمية وجماعة أبولو بينما خصص الفصول التلاثة المتبقية لدراسة أشعار الحركة التجديدية الثانية ، وهو توزيع يظهر من خلاله أن الناقد اعتبر الحركة التجديدية الأولى كمدخل لدراسة الحركة التجديدية الثانية ، ليلفت انتباهنا إلى أن الشعر الجدير بالدراسة هو شعر ما بعد النكبة، الذي أطلق عليه مصطلح الشعر الحديث .والذي كان ظاهرة لم يسبق للشعر ان عرف مثلها.
الفصل الاول: التطور التدريجي في الشعر الحديث
الشعر العربي بين التطور والتطور التدريجي
نبه الناقد في مستهل هذا الفصل إلى أن الشعر العربي عموما لم يتطور إذا ما قورن " بالحقب الطويلة والأحداث الجسيمة التي تعاقبت على الأمة العربية" ص7 وسبب هذا السكون في نظره هو غياب شروط التطور فالتطور " مرهون بتوفر جملة من الشروط يهمنا منها شرطان إثنان أحدهما ان يسبق ذلك التطور باحتكاك فكري مع الثقافات والآداب الأجنبية والآخر أن يتوفر للشعراء قدر مناسب من الحرية يتيح لهم أن يعبروا عن تجاربهم"ص6
ومن هذا المنظور يمكن القول بان غياب الحرية حسب الناقد هو السبب الذي كان وراء تأخر التجديد في الشعر العربي القديم بالخصوص، ومرد ذلك هو أن النقد العربي الذي ولد بين أحضان علماء اللغة كان يقدس الشعر الجاهلي لأن لغته لغة استشهاد لم يلحقها اللحن،لذلك لا غرابة أن نرى محاولات المتنبي وأبي تمام وأبي نواس تتأثربهذا النمط من النقد الذي لا يؤمن سوى بصرامة عمود الشعر. أما الشعر الحديث فيعتقد الناقد بإمكانية تقسيمه إلى حركتين، حركة كان التجديد عندها تدريجيا كما رأينا وهي حركة الإبداع الرومانسي لأن شعراءهم لم تتح لهم الحرية الكافية لممارسة التجديد في ظل نقد محافظ يمجد القديم يتزعمه طه حسين، وحركة كان التجديد عندها عنيفا لأنها تزامنت مع نكبة فلسطين وهو الامتياز الذي أتاح " للشاعر الحديث أن يمارس حريته بكيفية وبقدر لم يتح مثلهما لغيره من الشعراء المجددين"ص7، وهاهنا نطرح سؤالا للمناقشة: هل الحرية مطلب يعطى للشاعر ؟ أم حق ينتزع؟ يحتاج إلى شخصية الشاعر وجرأته.
1. القسم الأول من الفصل الأول: نحو موضوع ذاتي:
في الوقت الذي بدأت شخصية الإنسان العربي تشعر بانهيار تام، وفي الوقت الذي تعالت فيه الفلسفات المنادية بحرية الإنسان ظهر الشعر الرومانسي بتجمعاته الثلاثة ( الديــــــــــــوان، الرابطة القلمية، وأبولو) ليقود المضامين الشعرية من التغني بالجماعة إلى التغني بالوجدان الذاتي، فكيف تمظهر هذا الموضوع في شعر كل جماعة؟ وما موقف المجاطي من طريقة تناول كل جماعة لهذا الموضوع الوجداني؟
1.1. مدرسة الديــــــوان:
لا تذكر جماعة الديوان إلا ويذكر معها العقاد وشكري والمازني ،ولا تذكر كذلك إلا ويذكر معها موضوع الوجدان الذاتي الذي يعتبر أعظم جديد هذه المدرسة، فقد "إلتقى هؤلاء الشعراء عند فكرة هي أن الشعر وجدان غير أن مفهوم الوجدان عندهم كان متباينا فقد أراده العقاد مزاجا من الشعور والفكر... حتى قيل بأن العقاد مفكر قبل أن يكون شاعرا، أما شكري فقد فهم الوجدان على أنه التأمل في أعماق الذات لأن المعاني عنده جزء من النفس لا يدرك بالعقل وإنما يدرك بعين الباطن أي بالقلب" ص....أما المازني فالوجدان عنده كل ما تفيض به النفس من شعور وعواطف وإحساسات ، إنه شاعر يحب أن يتعامل مع الأشياء تعاملا أساسه الإنفعال المباشر.
أما رأي المجاطي في طريقة تعامل شعراء هذه المدرسة مع موضوع الوجدان، فيمكن تلخيصه في قوله" أثر الوجدان في شعر هذه الجماعة كان أثرا سلبيا يؤثر هدوء الحزن وظلمة التشاؤم على ابتسامة الأمل واستشراف النصر فحفر بذلك أول قناة مظلمة في طريق الاتجاه الرومانسي" ص 18
2.1. الرابـــــــــــطة القلمية:
تغنى شعراء الرابطة القلمية بدورهم بالوجدان، لكنهم أرادوا أن يوسعوه ليشمل الحياة والكون والذات الإلهية،فالتأمل في الذات في نظرهم لا يجعلك حبيس ذاتك فقط بل يجعلك تنفتح على عالمك الخارجي بكل تفاصيله وجزئياته ، بمعنى أن التأمل في الذات يساوي ضرورة فهم الحياة والكون والذات الإلهية، وهذا ما نفهمه من خلال هذه الأقوال:
إذا أغمضت عينيك ونظرت في أعماق أعماقك رأيت العالم بكلياته وجزئياته. -
الحياة تنبثق من داخل الإنسان. -
- كل ما في الوجود كائن في باطنك.
إن أنا ينبوع تتدفق منه الأشياء كلها وإليه تعود. -
على هذا النحو أراد شعراء الرابطة القلمية أن يفهموا الوجدان فهو النفس والحياة والكون، فهل كانوا كذلك في أشعارهم؟
لقد أكد المجاطي أن الوجدان الذي تغنى به شعراء الرابطة القلمية كمشروع لم يتحقق في أشعارهم وإبداعاتهم ، لأننا سنجد مكانه هروبا من الناس ومن الواقع فقد هرب جبران بأحلامه إلى الغاب( هل اتخذت الغاب مثلي منزلا دون القصور)، وتبعه في ذلك كل شعراء الرابطة ،والتجأ إليا أبو ماضي إلى الخيال،( نحن أهل الخيال أسعد خلق الله حتى في حالة الحرمان )، يقول متهكما" ألم تشتمل الذات والحياة والكون جميعا على شيء سوى الهروب والاستسلام والخنوع؟وهل يتعذر على المرء أن يرتفع إلى أفق الرب دون أن ينكر قيمة السير مع الجماعة؟" ص25.
3.1. جماعة أبــــــولـــــو:
لا تذكر جماعة أبولو إلا ويذكر معها أحمد زكي أبو شادي الذي كان له شرف تأسيسها سنة1932 رفقة جماعة من الشعراء أمثال: أبي القاسم الشابي وعلي محمود طه والصيرفي...، وهي جماعة آمنت بأن مصدر الشعر هي ذات الشاعر وما تعيشه من أحوال وتقلبات إلى درجة أن حياة الشاعر يمكن تلمسها في أشعاره ،يقول أبو شادي:
وما كان شعري في نظم أصوغه *** ولكن شعري أن أكون أنا الشعرا
أما بخصوص تعليق المجاطي على شعر هاته الجماعة فيعتقد بأن في أشعارهم نوعا من الإغراق والانطواء على هموم الذات الفردية إغراقا تحول في نظره إلى ما يشبه المرض "ص 34 مرض سيقابله حسب الناقد تيار آخر سيمجد الذات الجماعية ويعيش هموم الناس ويواجه الحياة بمسراتها وأوجاعها، في إشارة إلى شعر ما بعد النكبة "الشعر الحديث،الذي يوازي الحداثة أو الشعر الحر ....والذي سيسلط عليه الضوء في الفصول الثلاثة المتبقية.
2. القسم الثاني من الفصل الأول: نحو شكل جديد
إذا كانت القصيدة الإحيائية تعتمد على امتلاء الذاكرة وتقليد النموذج، فإن التيار الوجداني قد استخدم لغة أكثر سهولة ويسر من لغة القصيدة الإحيائية التي كانت تميل إلى رصانة اللفظ وجزالة الأسلوب وبداوة المعجم. بل تستعمل القصيدة الوجدانية لغة الحديث المألوف ولغة الشارع كما عند العقاد في الكثير من قصائده الشعرية ولاسيما قصيدته” أصداء الشارع” الموجودة في ديوانه” عابر سبيل”. كما أن الصورة الشعرية البيانية صارت تعبيرية وانفعالية وذاتية ملتصقة بتجربة الشاعر الرومانسي. بينما اقترنت الصورة الشعرية لدى الإحيائيين بالذاكرة التراثية مستقلة عن تجربة القصيدة الذاتية ، وغالبا ما تأتي للتزيين والزخرفة ليس إلا.
و” لقد أراد الشاعر الوجداني أن يجعل للصورة وظيفة أساسية، وأن تكون هذه الوظيفة نابعة من تجربته الذاتية، ومن رؤيته للحياة، عبر تلك التجربة، ولم يعد التدبيج والزخرفة هدفه الأساسي من استخدامها، لا بل إن هذه الوظيفة أصبحت ذات علاقة بوظائف العناصر الشعرية الأخرى، من أفكار وعواطف وأحاسيس، ومن هذه العلاقة الأخيرة، تنشأ خاصية أخرى من خصائص الشكل في القصيدة الوجدانية الحديثة، هي خاصة الوحدة العضوية. فكما أراد الشاعر الوجداني أن يربط بين الصورة وبين عواطف الشاعر وأحاسيسه، أراد كذلك أن يربط هذه العواطف والأحاسيس والأفكار يبعضها، ومن القصائد الوجدانية التي تتمثل فيها خاصة الوحدة العضوية قصيدة “حكمة الجهل” لعباس محمود العقاد التي يحافظ فيها الشاعر على الرابط العضوي والمنطقي، لذا من الصعب أن يخل الدارس بتسلسل الأبيات تقديما وتأخير هذا، وقد مال الوجدانيون إلى تحقيق بعض الملامح التجديدية في أشعارهم كتنويع القوافي والأوزان، وتشغيل الوحدة العضوية في بناء القصيدة، واستعمال القصائد والمقطوعات المتفرقة، وتليين اللغة وترهيفها وإزالة قداستها البيانية ، وتوظيف القافية المرسلة والمزدوجة والمتراوحة، واللجوء إلى الشعر المرسل. لكن هذا التجديد سيواجهه النقاد المحافظون بالمنع والتقويض كمصطفى صادق الرافعي وطه حسين والعقاد في إحدى مراحله النقدية وإبراهيم أنيس صاحب كتاب ” موسيقا الشعر”.
- تعليق المجاطي على جديد الشكل عند الشعراء الرومنسين:
غير أن هذا التجديد الذي جاء به شعراء التيار الذاتي على مستوى الشكل وكما أشار إلى ذلك الناقد لم يكن صفة ملازمة لجميع شعراء هذا التيار ، بل لم يتحقق إلا في بعض القصائد النخبوية والسبب عنده راجع إلى تشدد النقد المحافظ والذي لم يكن مستعدا لتقبل الجديد يقول المجاطي" أما السر في انحصار التطور والتجديد على مستوى الشكل في هذا الحيز الضيق من الشعر الوجداني فيرجع في نظري إلى تلك الحملة التي شنها النقد المحافظ على الحركة التجديدية منذ أن رأى محاولاتها تستهدف اللغة والأوزان والقوافي والصور البيانية "ص48 ،ويكفي أن نذكر من أولئك النقاد المحافظين مصطفى صادق الرافعي الذي نبه جبران إلى أن اللغة العربية مقدسة يجب الحفاظ عليها، وطه حسين الذي نعث قصيدة إليا أبي ماضي بالجنون في قوله"فإذا أردت العبث الذي لاحد له بالموسيقى الشعرية فاقرأ قصيدة المجنون ، فترى أنها جنون كلها" فاعتبر بذلك جديد إليا أبي ماضي جنونا وعبتا وحكي لجنون المجانين.
ولما كان الأمر كذلك كان لا بد أن تتأثر تلك المحاولات التجديدية بذلك النقد المحافظ الذي وصل في كثير من الأحيان حد السب والتهكم والسخرية، لكن رغم ذلك تظل التجربة الرومانسية تجربة رائدة في الشعر العربي الحديث لأنها مهدت الطريق أمام الحركات الشعرية التي سترى النور بعد النكبة1948 لتواصل رحلة التجديد والتطوير.
الفصل الثاني والثالث: تجربة الغربة والضياع وتجربة الحياة والموت
تقديـــــــــــــــــــم:
هزيمة الجيوش العربة سنة 1948 و التي تزامنت مع نكسة فلسطين، كانت كافية ليفقد الشباب العربي ثقتهم بأنفسهم وبكل ما يحيط بهم من ثقافة وعلاقات اجتماعية وآداب ويدعوا فرصة للشك ليمارس منطقه على الأنا والآخر بل كاد الشك أن ينال من علاقة الإنسان العربي بخالقه، وفي ظل واقع الهزيمة والشك راح الشاعر العربي يبحث لنفسه عن شكل شعري جديد يتجاوز به الأنظمة التقليدية التي كانت تقيد إبداعاته ويستعين به على تحليل واقعه والوقوف على المتناقضات التي تكتنفه وإدراكها إدراكا موضوعيا تتبدى من خلاله صورة الواقع الحضاري المنشود الذي يريده، وهو الشيء الذي سيتحقق عندما فتح الشاعر العربي ذهنه للثقافات الأجنبية والفلسفات التحررية فكانت النتيجة ظهور شعر جديد يتغنى بمضامين جديدة ، لخصها الناقد في تجربتين شعريتين هما: تجربة الغربة والضياع وتجربة الحياة والموت، فما الفرق بين التجربتين؟
1. تجربة الغربة والضياع:
تجربة الغربة والضياع،تجربة شعرية فريدة من نوعها تتغنى بالغربة والضياع والكآبة والتمزق عرفها الشعر الحديث في بداية الخمسينات ووسمت أشعار جماعة من الشعراء كصلاح عبد الصبور والبياتي وبدر شاكر السياب وسميح القاسم ...فماهي أسبابها؟ وماهي تجلياتها في الواقع الحضاري للإنسان العربي؟ بخصوص الأسباب التي كانت وراء هذه التجربة الشعرية المأساوية رأى بعض الدارسين بأن الأسباب كثيرة قد يكون بعضها هو التأثر بأعمال بعض الشعراء الغربيين من أمثال توماس إليوت أو بعض المسرحيين والروائيين الوجوديين كألبير كامو وجان بول سارتل ممن ترجمت أعمالهم إلى اللغة العربية و أغلب الظن كما يذهب إلى ذالك المجاطي أن السبب الأساسي هو الواقع العربي الذي حولته الهزيمة إلى أنقاض وخرائب ولوثت تاريخه المشرق بنكسة لم تكن في الحسبان، يقول الناقد" إن شهادة هؤلاء الشعراء و هم جميعا من رواد الشعر الحديث- ويقصد البياتي وصلاح عبد الصبور وأدونيس- تؤكد أن النكبة كانت أهم عامل في الاتجاه بالتجربة الشعرية الحديثة نحو آفاق الضياع والغربة" ص 66.
أما بخصوص تجلياتها في الواقع الحضاري،فيمكن رصدها في كون الإنسان العربي بعد النكبة صار غريبا في الكون الذي يشمله و في المدينة التي يضطرب فيها وفي الحب الذي يملأ قلبه وفي الكلمة التي أريد لها أن تكون سيفا سلوكا نضاليا فاستحالت صمتا حجرا ومنية.
2. الغربة في الكون:
لقد رسم الشاعر الحديث بقصائده صورا لكونه مثقلة بالظلمة والمرارة والإحساس بالعبث،تفسيرها الوحيد هو أن الشاعر وحيد متفرد غريب في كونه إلى درجة تمنيه الموت خلاصا:
هجرتني
نسيتني
حكمت بالموت علي قبل ألف عام
وهاأنا أنام
منتظرا فجر خلاصي ساعة الإعدام
فالكون عنده مرة متاه يتغلغل فيه كالمسمار بلا صوت"يكفيك أن تعيش في المتاه منهزما أخرس كالمسمار" وهو مرة أرض بلا خالق" مسافر تركت وجهي علي زجاج قنديلي،خريطتي أرض بلا خالق و الرفض إنجيلي’’وهو مرة فضاء بلا حدود" رجلاي في الفضاء والفضاء هارب’’،بل حتى الزمن ليس هو الزمن الذي اعتاد الناس على تقسيمه إلى دقائق وثواني وليل ونهار:
هل تدري في أي الأيام نعيش
هذا اليوم الموبوء هو اليوم الثامن
من أيام الأسبوع الخامس
في الشهر الثالث عشر’’وبلغت غربة الشاعر الحديث في كونه ذروتها فتمنى لو أعيد خلق الكون من جديد " ألا صورة من جدي لهذا الوجود"
3. الغربة في المدينة:
لقد أحس الشاعر الحديث بغربة تواجهه في علاقته بالمدينة التي يعيش فيها من جهة، وبمن فيها من أناس وقيم وأشياء من جهة ثانية وسلك للتعبير عن تلك الغربة طرقا مختلفة، فصور المدينة في ثوبها المادي الخالي من كل حمولة إنسانية،فهي تارة من الزجاج وتارة من الحجر وهي تارة بلا قلب لا تجيد فلسفة الحب، تقسو عل الأحياء و الأموات، الناس فيها صامتون" وأهلها تحت اللهيب و الغبار صامتون"، مشغولون بأنفسهم لا يلقون التحية ولا يعرفون الشفقة،يتجاهلون موتاهم لا يعرفونه لا يبكونهم"
في زحمة المدينة المنهمرة
أموت لا يعرفنــــي احد
أموت لا يبكينـــــي أحد.
4. الغربة في الحب:
كما فشل الشاعر الحديث في التلاؤم مع جو المدينة الخانق وحمل غربته ليواجه الموت، فشل كذلك في الوصول إلى جوهر المرأة،لأن همومه أكثر من أن تحصى وتركيبه النفسي أصبح معقدا لا تجدي معه جرعة الحب بمفهومها الجسدي والروحي شيئا.
فعلى مستوى الجسد لم يستطع الشاعر أن يصل إلى كنه المرأة ولا هي استطاعت ذلك ، فبقدر العناق يكون الفراق، فقد توحدا في جسد واحد لكن ظل لكل واحد منهما سجنه الخاص عالمه الخاص المغلق، يمتد العناق بينهما مدة طويلة ولا يستطيع الشاعر أن يهدم الصور القائم بينه وبين ضجيعته، "وكيف أصبحنا عدوين وجسم واحد يضمنا" أما على مستوى الروح فلم يعد الحب يعني للشاعر شيئا،لأن وقع الهزيمة التي حولت الواقع العربي إلى خراب كان عظيما طمس كل معالم العاطفة النبيلة، يقول عبد المعطي حجازي "إن وقت الحب فات إن الحب مات" ويقول السياب " اقتليني كي أحبك" و نجد صلاح عبد الصبور يحمل مسؤولية ضياع الحب للزمن الذي يعيش فيه " إذا افترقنا يا رفيقتي ،فلنلقي كل للوم على زماننا".
الفصل الرابع: الشكل الجديد
استعمل الشعر الحديث شكلا جديدا يتجلى في استخدام الرموز والأساطير والصور البيانية الانزياحية، كما أن اللغة تختلف من شاعر إلى آخر، فالشعراء العراقيون الذين يمثلهم بدر شاكر السياب يستعملون لغة جزلة وعبارة فخمة وسبكا متينا على غرار الشعر القديم الذي يتميز بالنفس التقليدي كما يظهر ذلك جليا في دواوين السياب القديمة والمتأخرة وخاصة قصيدته "مدينة بلا مطر"، وقصيدة" منزل الأقنان"، بينما هناك من يختار لغة الحديث اليومي كما عند أمل دنقل في ديوانه" البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، وهناك من يخلخل اللغة الشعرية النفعية المباشرة ويستعمل لغة انزياحية موحية تنتهك معايير الوضوح والعقل والمنطق كما نجد ذلك عند الشاعر أدونيس والبياتي ومحمد عفيفي مطر وصلاح عبد الصبور، وهناك من يشغل اللغة الدرامية المتوترة النابعة من الصوت الداخلي، وهذا الصوت" منبثق من أعماق الذات، ومتجها إليها، خلافا لماهو الأمر عليه لدى الشاعر القديم، الذي امتاز سياقه اللغوي بصدوره عن صوت داخلي يتجه إلى الخارج، وهو في اتجاهه إلى الخارج يأخذ شكل خطاب أو التماس أو دعوة إلى المشاركة والتعاطف، الأمر الذي يمنعه من أن يقيم جدارا بينه وبين العالم الخارجي أثناء المعاناة والتوتر، فهناك دائما شخص آخر يقاسم الشاعر آلامه" ، كما نجد ذلك لدى الشاعر محمد مفتاح الفيتوري في قصيدته " معزوفة لدرويش متجول".
وعلى مستوى الصورة الشعرية، فقد تجاوز الشاعر الصور البيانية المرتبطة بالذاكرة التراثية عند الشعراء الإحيائيين، والصور المرتبطة بالتجارب الذاتية عند الرومانسيين، إلى صور تقوم على توسيع مدلول الكلمات من خلال تحريك الخيال والتخييل وتشغيل الانزياح والرموز والأساطير وتوظيف الصورة الرؤيا وتجاوز اللغة التقريرية المباشرة إلى لغة الإيحاء. ولا ريب أن ولع" الشاعر الحديث بالضرب في بحور المعرفة السبعة ، قد أتاح له أن يجتني المزيد من الصور والرموز، التي تعتبر من أهم الوسائل التي يلجأ إليها الشاعر الحديث للتعبير عن تجاربه الجديدة، ولا ريب في أن الشاعر حين فعل ذلك، وحين وسع مدلول صوره البيانية، أو حدده بربطه بمدلولات سائر الصور في القصيدة الواحدة، أو حين فتح مدلول الصورة الواحدة على آفاق تجربته المختلفة، قد ابتعد كثيرا عن مفهوم الصور البيانية في البلاغة القديمة، وأن هذا البعد قد ساهم مساهمة فعالة في إبعاد تجاربه الشعرية عن ذوق عامة الناس،كما منحهم نوعا من التبرير لوصف شعره بالغموض. ".
ولكن أهم خاصة شكلية يتسم به الشعر الحديث هو تطور الأسس الموسيقية، وإن كان بعض الشعراء المحدثين مازالوا يستعملون الطريقة التقليدية في كتابة قصائدهم كما هو حال البياتي في هذا المقطع المأخوذ من ديوانه" الذي يأتي ولا يأتي":
عديدة أسلاب هذا الليل في المغاره
جماجم الموتى، كتاب أصفر، قيثاره
نقش على الحائط، طير ميت، عباره
مكتوبة بالدم فوق هذه الحجاره.
بيد أن هناك من الشعراء من نسف عروض الشعر لينتقل إلى عروض القصيدة معتمدا على التفعيلة وتنويعها والتصرف في عددها حسب انفعالات التجربة الشعرية وتوقفها. أي إن التجربة الشعرية الذاتية الداخلية هي التي تستلزم الإيقاع الشعري والوقفة العروضية والنظمية والدلالية عند الشاعر المعاصر.
هذا، وقد التجأ الشاعر الحديث إلى تنويع البحور الشعرية داخل قصيدة واحدة، واستخدام البحور الصافية منها ، وتنويع القوافي والتحرر من القافية الموحدة التي تمتاز بالرتابة والتكرار الممل، ناهيك عن تفتيت وحدة البيت المستقل وتعويضه بالأسطر والجمل الشعرية التي تخضع للنسق الشعوري والفكري.
وشغّل الشاعر الحديث ستة بحور شعرية كالهزج( مفاعيلن)، والرمل( فاعلاتن)، والمتقارب( فعولن)، والمتدارك ( فاعلن)، والرجز( مستفعلن)، والكامل(متفاعلن)، ولقد أصبح " في وسع الشاعر أن يستخلص من البحر الواحد عددا هائلا من الأبنية الموسيقية، التي ربما أغنته عن التفكير في الانصراف من البحر ذي التفعيلة الواحدة إلى غيره. ولقد فطن الشاعر الحديث إلى هذه الخاصة منذ السنوات الأولى لاكتشاف الشكل الجديد، فقد لاحظ الدكتور إحسان عباس في كتابه" عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث" الصادر سنة 1955م، أن" في ديوان " أباريق مهشمة" إحدى وأربعين قصيدة، منها ثمان وعشرون تستمد نغماتها من البحر الكامل، ومنها ست على بحر الرمل" .
ومن سمات التجربة الجديدة الخلط بين البحور داخل قصيدة واحدة كما عند السياب في قصيدتين من قصائد ديوان" شناشيل ابنة الجلبي"، وأدونيس في قصيدته" مرآة لخالدة" من ديوان" المسرح والمرايا".
ومن " النصفة تقتضي منا – يقول أحمد المعداوي- أن نشير إلى أن الطاقات الموسيقية للبحور المختلطة، بالرغم من أهميتها، لم تستغل على النحو الذي رأيناه عند أدونيس إلا نادرا".
ومن الظواهر التي تم توظيفها في الشعر الحديث التنويع في الزحافات ، وتنويع الأضرب، واستعمال صيغة فاعل في بحر الخبب ، والاتكاء على التدوير والتضمين، وتنويع القوافي حسب النسق الشعوري والفكري مع استخدامها بشكل متراوح أو متعانق أو متراكب أو موحد أو متقاطع أو متراوح.
ويرى أحمد المعداوي في آخر الكتاب أن الحداثة من العوامل التي كانت وراء وصف الشعر العربي الحديث بالغموض، إلى جانب ما تتطلبه القصيدة الحديثة من إعمال للجهد واستلزام لذوق قرائي جديد، ثم انفصال هذا الشعر عن الجماهير مادام لا ينزل معها إلى ساحة المقاتلة والنضال والصراع ضد قوى الاستغلال والبطش ولا يشاركها في معاركها الحضارية.
تقـــــويم الكتـــــــاب:
أولا: الأساليب الحجاجية والحجج الموظفة وطرائق العرض
1. الأساليب الحجاجية:
نوع الناقد في اساليبه الحجاجية وفق ما يتطلبه كل سياق، ونذكر منها:
المقارنة: مثل إبراز نقط الاختلاف ونقط الائتلاف بين شعراء مدرسة وشعراء مدرسة أخرى، أو بين شاعرين من نفس المدرسة
الاستشهاد: استشهاده بمجموعة من أقوال النقاد أو إبداعات الشعراء، وهي استشهادات كثيرة في الكتاب.
التمثيل: تقديم أمثلة عن ظاهرة لتفسيرها وشرحها
اعتماد لغة تقريرية مباشرة: سهولة الألفاظ / وضوح المعاني / تبسيط الأفكار.
الاعتماد على حقول دلالية من حيث المعجم: حقل ادبي فني (جماعة الديوان ـ الشعراء ـ المضامين…) وحقل تاريخي ـ اجتماعي (المجتمع المصري ـ البرجوازية الصغيرة ـ الفترة التاريخية ـ النكبة ـ النكسة …)وحقل وجداني (الذات ـ الوجدان ـ العواطف …).
2. الحجج الداعمة:
تنوعت الحجج الموظفة بين:
حجج واقعية: مستمدة من الواقع العربي، مثل الواقع المصري
حجج تاريخية: مثل التاريخ السياسي العربي: فترة الاستعمار / حدث النكبة / حدث النكسة / تأميم قناة السيوس …
استشهادات كبار النقاد: مثل الاستشهاد بأقوال عباس الجراري وغيره
استشهادات بقصائد ودواوين الشعراء:
ديوان “أحلام الفارس القديم”
قصيدة “الكلدان في المنفى” من ديوان “أعناق الجياد النافرة” للشاعر فواز العيد
ديوان إبراهيم ناجي …
3. طرائق العرض:
- تنظيم محاور الدراسة:
تقسيم الدراسة إلى مجموعة من الفصول، وتقسيم الفصل الأول إلى قسمين.
تقسيم كل فصل إلى مجموعة من المحاور
- الاستنباط:
مثل الانطلاق من مبدإ عام، وهو “التقاء شعراء جماعة الديوان عند فكرة واحدة، وهي أن الشعر وجدان، ثم تتبع الظاهرة بعد ذلك في جزئياتها الخاصة عند كل شاعر منهم.
ومثل: الانطلاق من مبدإ عام، وهو ” اتجاه شعرلء الرابطة القلمية في تجاربهم إلى التعبير عن الذات”، ثم تتبع جزئيات الظاهرة عند كل شاعر منهم.
ومثل: الانطلاق من فكرة عامة، وهي ” تطور الشكل الفني في القصيدة الوجدانية”، ثم الاستدلال على ذلك من خلال دراسة إنتاج بعض من شعراء التيار الوجداني.
- الاستقراء:
مثل دراسة بعض النماذج من إبداع شاعر معين، لإصدار حكم عام على نوعية إنتاجه، مثلما فعل في دراسة إبداعات مختلف الشعلراء، كأدونيس والبياتي والسياب وغيرهم.
ثانيا: منهجية الكتاب
ينطلق أحمد المعداوي في هذا الكتاب الجدير بالمدارسة والمتابعة من منهج تاريخي فني ينفتح فيه الكاتب على المناهج الضمنية الأخرى كمنهج التلقي، والمنهج الأسطوري ( دراسته للأساطير) ، والمنهج الاجتماعي.
ويتمثل المنهج التاريخي في تحقيب الشعر العربي زمنيا ( الشعر القديم، والشعر الإحيائي، والشعر الذاتي، والشعر الحديث) من خلال ربطه بالظروف التاريخية كربط الشعر العربي الحديث في القرن العشرين بما عرفه العالم العربي من نكسات ونكبات وحروب وهزائم.
أما المنهج الفني فيكمن في تقسيم الشعر العربي الحديث إلى مدارس شعرية فنية التي حصرها الدارس فيما يلي:
1- المدرسة الإحيائية المرتبطة بالنموذج التراثي؛
2- الحركة الرومانسية ذات التوجه الذاتي والتي تنقسم بدورها إلى هذه المدارس الوجدانية: مدرسة الديوان، ومدرسة أپولو، ومدرسة المهجر؛
3- حركة الشعر الحر أو الشعر الحديث أو الشعر المعاصر.
ويلتجئ أحمد المعداوي إلى منهج التلقي أثناء الحديث عن عزوف القراء عن الاهتمام بالشعر المعاصر أو مايسمى بشعر الحداثة، ويرجع ذلك العزوف والابتعاد إلى هيمنة الغموض في هذا الشعر؛ مما سبب في انفصال كبير بين المرسل والمتلقي، أو بين المبدع والقارئ. ومن الأدلة على وجود هذا المنهج قول الكاتب:" غير أن النصفة تقتضي منا أن نسجل بأن ثمة عدة عوامل حالت بين هذا الشعر وبين أن يصل إلى الجماهير العربية، ليتحول إلى طاقة جبارة، شبيهة بالطاقة التي اعتدنا من الكلمة الصادقة أن تفجرها في كل العصور".
وتتجلى القراءة الاجتماعية في ربط المبدع ببيئته الاجتماعية ووسطه الزمكاني، وربط الإبداع بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي كما يظهر ذلك في حديثه عن تجربة الغربة والضياع التي ربطها بهزيمة العرب في حرب حزيران ناهيك عن النكبات والنكسات التي عاشها العرب منذ 1948م، ومن الشواهد النقدية الاجتماعية على ذلك قول الكاتب:" كانت هزيمة الجيوش العربية سنة 1948 مفاجأة من الأمة لنفسها، وفرصة لمواجهة ذاتها مواجهة صريحة بإعادة النظر في كل مايحيط بها، سواء أكان ثقافة أم سياسة أم علاقات اجتماعية. لم يبق بين الناس، ولا في أنفسهم شيء أو قيمة لم تتجه إليها أصابع التهمة. الحقيقة الوحيدة التي استقرت في كل قلب هي مبدأ الشك، الشك بعلاقة العربي بنفسه وبما حوله، وبماضي أمته وحاضرها، حتى أوشك الشك أن ينال من علاقة العربي بربه. وأمام هذا الإيمان بمبدإ الشك بدأت الأرض تهتز تحت أقدام الوجود العربي التقليدي، ولم تعد له تلك الهيمنة القديمة على أفكار الناس وحريتهم، وبات في وسع العربي الشاعر أن يفتح نفسه للأفكار والفلسفات ، والاتجاهات النقدية في الأدب والشعر، الواردة من وراء البحر،وأن يدعها تمتزج في نفسه وفكره بثقافته القومية، ليستعين بذلك كله على تحليل واقعه ، والوقوف على المتناقضات والملابسات التي تكتنفه، وإدراكها إدراكا موضوعيا تتبدى من خلاله صورة الواقع الحضاري المنشود الذي نريد".
ومن جهة أخرى، ينهج الكاتب منهج الظواهر والقضايا في دراسة الشعر العربي الحديث والمعاصر، ويتضح ذلك جليا في عنوان الكتاب " ظاهرة الشعر الحديث"، وتقسيم الكتاب إلى مجموعة من الفصول الدراسية تتخذ طابع القضايا والظواهر الأدبية تتعلق بالشعر الحديث صياغة ودلالة ( شعر الغربة والضياع، وشعر الموت واليقظة، والشكل الجديد) ، وقد تمثل هذا المنهج في المغرب الأستاذ عباس الجراري في مجموعة من كتبه ، والدكتور محمد الكتاني في كتابه" الصراع بين القديم والجديد". وهذا المنهج استلهمه المغاربة من كتابات أساتذة الأدب في الجامعة المصرية.
ويعرف الدكتور عباس الجراري منهج الظواهر والقضايا بأنه يستعين:" بفكر نقدي يستند إلى الواقع والمعاصرة، وبجدلية وموضوعية تعتمدان على معطيات استقرائية واستنتاجات منطقية، بعيدا عن أي توثن أو معتقدية متزمتة أو موقف تبريري، إذ في ظني أنه لايمكن فصل المنهج عن المضمون كما أنه لايمكن ممارسة نقد قبلي، أي نقد سابق على المعرفة.
ويقضي محتوى المنهج عندي كذلك أن أنظر إلى تلك القضايا والظواهر من زاوية تعطي الأسبقية للتمثل العقلي على النقد التأثري، أي بنظرة فكرية عقلانية وليس على مجرد التذوق الفني النابع من الإحساس الجمالي والتأثر العاطفي والانفعال الانطباعي بالأثر المدروس. وإن كنت لا أنكر أهمية المنهج الفني وجدواه بالنسبة لنوع معين من الموضوعات، وقد سبق لي أن جربته في بعض الأبحاث، وخاصة في دراسة لي منشورة عن" فنية التعبير في شعر ابن زيدون".
وبهذا يحقق المنهج جملة أهداف، في طليعتها الكشف عن مواطن الجمال وعن الدلالات الفنية وما ينبثق عنها من حرارة يحث تحسسها على إدراك ما يتكثف تلك الدلالات من مضامين فكرية، باعتبار الجانب الفني المتمحور حول اللغة وبنائها التركيبي ظاهرا يبطن فكرا، أو أنه بعد أولى يخفي أبعادا أخرى عميقة. وبذلك تبرز قيمة الإبداع ، وتبرز من خلالها كل الشحنات الشعرية والطاقات الفكرية والمضامين الإنسانية والأبعاد الصراعية سلبا وإيجابا.
كما يحقق المنهج من أهدافه إثبات الوقائع وربطها بالأسباب ووصف الظواهر وتعليلها والبحث عن بواعثها الخفية والظاهرة القريبة والبعيدة، واستخلاص العلاقات التفاعلية بينها وبين غيرها".
ويتبين لنا من كل هذا أن أحمد المعداوي يشغّل في كتابه عدة مناهج نقدية في دراسته الأدبية النقدية تجمع بين الظواهر المضمونية والقضايا الشكلية في إطار رؤية تاريخية اجتماعية فنية يستحضر فيها الكاتب القارئ المتلقي لمعرفة سبب انعدام التواصل بين المبدع المعاصر والمتلقي الرافض للشعر الحداثي.
ثالثا: إشكالية المصطلح:
سمى أحمد المعداوي شعر التفعيلة بالشعر الحديث، بيد أن هذا المصطلح يثير بلبلة منهجية ومعرفية، فالمعروف أن العصر الحديث تاريخيا يمتد من 1850م إلى 1950م ليبدأ العصر المعاصر من سنة 1950م إلى يومنا هذا. كما أن هذا المصطلح لايعبر بدقة عن شعر التفعيلة، فقد يضم الشعر الحديث الشعر الرومانسي والشعر الحر والشعر المنثور، ويمكن أن ينسحب على الشعر الكلاسيكي لما لا؟؟! لذا نفضل التسميات التالية: الشعر المعاصر أو شعر التفعيلة آو الشعر الجديد. أما شعر الحداثة فينطبق على شعر التفعيلة كما ينطبق على الشعر المنثور.
ويقول أحمد المعداوي مدافعا عن مصطلحه ( الشعر الحديث) الذي نرفضه جملة وتفصيلا:" هناك عدة اقتراحات لتسمية هذه الحركة الشعرية، منها اقتراح الشاعر صلاح عبد الصبور لتسميتها بالشعر التفعيلي، وهي تسمية غير دقيقة لأنها تستند إلى جانب شكلي، بل إلى جانب جزئي من الشكل هو الوزن. وهناك اقتراح آخر هو تسميتها بالشعر المنطلق، ويؤخذ عليه أن مفهوم الانطلاق قد يعني التحرر من كل قيد، كما أن مفهوم الحرية في قولهم الشعر الحر، قد يعني التحرر من أي التزام، ومن أجل ذلك آثرنا استعمال مصطلح الشعر الحديث تمييزا لهذه الحركة عن التيارات الشعرية الجديدة الأخرى، كتيار أپولو وتيار المهجر وغيرهما...".
إقصاء الشعر المنثور:
إذا كان أحمد المعداوي قد دافع عن الشعر الحداثي الذي يعتمد على الحرية والمثاقفة مع الآداب الأجنبية ويقف بالمرصاد في وجه النقاد المحافظين، فإننا نجده في هذا الكتاب يمارس نفس الدور الذي مارسه الذين انتقدوا الشعر المعاصر التفعيلي، حيث يرفض أحمد المعداوي الشعر المنثور لاعتبارات إيقاعية، لذا، يخرجه بكل سهولة من دائرة الشعر والحداثة، وبذلك يحتكم إلى نفس المقاييس التي احتكم إليها النقاد المحافظون بصفة عامة، يقول أحمد المجاطي:" نخرج من هذا الحكم الأشعار التي أهملت موسيقا العروض العربي، معتمدة على ألوان من الموسيقى الداخلية لاضابط لها،مما يدخل في إطار ما يطلقون عليه " قصيدة النثر"، ونحن لم نتعرض لهذا الاتجاه في الشعر الحديث لثلاثة اعتبارات. (الاعتبار الأول) إهماله للوزن الذي نعتقد أنه شرط أساسي لكل شعر. و(الاعتبار الثاني) التقاؤه مع الشعر الحديث الموزون في الاعتماد على التعبير بالصورة، واللجوء إلى الرمز والأسطورة والسياق اللغوي الجديد.(الاعتبار الثالث) هو انحسار موجة هذا التيار أمام الشعر الحديث الذي يعتمد الوزن الشعري أساسا موسيقيا له".
ولكن ألا يعرف الدارس اليوم أن الشعر التفعيلي قد انتهى دوره واضمحلت مكانته وانتهى عهده ؟! ألم يع بعد بأن هذا الشعر وقف مشدوها عاجزا أمام اكتساح الشعر المنثور لمعظم المنابر الثقافية، وأصبح مطية سهلة لكل الشعراء الصغار والكبار على حد سواء، وصارت الشبكات الرقمية والصحف تنشر كل يوم الكثير من القصائد النثرية فيها الغث والسمين ، ومعها كثر الشعراء حتى أصبح من الصعب إحصاؤهم ، وصار كل إنسان شاعرا بالفطرة يكتب الشعر المنثور ويقول بصوت عال بأنه " شاعر مفلق فحل"؟!
رابعا: مواضيع وأشكال أخرى
تناول أحمد المعداوي تجربتين وهما: تجربة الغربة والضياع، وتجربة الموت والتجدد، بينما هناك مواضيع أخرى تناولها الشعر المعاصر لم يناقشها الكاتب بالتفصيل والتمحيص ولم يشر إليها بالدرس والنقد كالتصوف والمقاومة الفلسطينية والنزعة الزنجية والقضايا الإسلامية والمكان والزمان والموت والأسطورة وشعر المدينة والحب والمرأة والنزعة الإنسانية وتيمة الحرب فضلا عن مواضيع سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية وحضارية.
كما أغفل من الناحية الفنية القصيدة الكونكريتية والقصيدة الدرامية المركبة والقصيدة القصصية والقصيدة المسرحية وطبيعة التركيب الجملي و خصائص الأسلوب وطبيعة الضمائر في الشعر العربي المعاصر .
خامسا: التعميـــم في الأحكام
نلاحظ أن أحمد المعداوي يعمم أحكامه ويسحبها على الظاهرة بأكملها، فعندما يتعامل مع الشعر الرومانسي يعتبره شعرا سلبيا يرتكن إلى الضعف والاستسلام والنكوص والانكماش، بينما نحن نعلم جيدا أن هذا الشعر جمع بين الذاتية والقضايا الوطنية ( قصيدة إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي)، والقومية ( نسر لعمر أبي ريشة). ويعني هذا أن ليس كل ما لدى الرومانسيين سلبي، فقد جمعوا بين التعبير عن الهموم الذاتية الفردية بسبب تردي الواقع الذي كان يعيشون فيه، والهموم الثورية من خلال حث الشعوب على الثورة والانتفاض ضد الاستعمار، وديوان أبي القاسم الشابي "أغاني الحياة" و" ديوان الحرية "لعبد الكريم بن ثابت خير دليل على ما نقول.
وما ذهب إليه أحمد المعداوي في حق شعر الذاتيين يمكن أن ينطبق أيضا على شعر الشعراء المحدثين الذين تغنوا بالغربة والضياع فهؤلاء حسب النقاد الاشتراكيين سلبيين يذرفون بكاء الندب والهزيمة، وكان من باب أولى أن يكونوا ثوريين وأن ينزلوا إلى واقع الممارسة لمشاركة القراء في همومهم وآلامهم من أجل تغيير العالم بدلا من تفسيره والبكاء عليه.
وعندما حاكم الدارس الشعراء الإحيائيين ووصفهم بالتقليدية واحتذائهم للنموذج التراثي وملء الذاكرة،فإنه لم يستثن المحاولات التجديدية التي قام بها أحمد شوقي الذي أبدع شعر الأطفال وشعر الفكاهة واللهو وشعر المسرح والنثر المسرحي وشعر الأمثال والقصص، وكانت له أيضا الكثير من القصائد ذات الملامح الرومانسية الوجدانية.
سادسا: تراجع في الأحكام
من الغريب جدا أن يسقط الباحث في تناقض كبير كما نجد ذلك عند الباحث الأكاديمي أحمد المعداوي وربما كانت ثمة عوامل ذاتية وموضوعية جعلته يتراجع عن أحكامه النقدية التي ضمنها في كتابه " ظاهرة الشعر الحديث" ، حيث نجد الكاتب في البداية يدافع عن الشعر الحر أو الشعر الحديث عارضا الأدلة والبراهين من أجل إقصاء الشعر الكلاسيكي والشعر الرومانسي ليسقطه في السلبية والتقليدية والبكائية الذاتية الضعيفة، وكل ذلك من أجل أن يمهد للشعر الحديث الذي جعل منه ميسما للحداثة والتجديد ووسيلة لتغيير الواقع، كما جعله علامة بارزة على التطور والتحول في شعرنا العربي الحديث.
بيد أنه في كتابه الثاني" أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث" يقوض كل ما بناه في كتابه الأول، آخذا فأس النقد ليحطم كل مرتكزات الشعر الحديث، ويطعن في كل الرموز الشعرية الكبيرة ليعلن إفلاس الشعر الحديث على نحو ماذهب إليه المفكر الألماني شپبنگلر الذي أعلن إفلاس الحضارة الغربية في كتابه عن بؤس الحضارة. وفي هذا السياق يقول أحمد المعداوي معلنا كساد الشعر الحديث ساخرا بالحداثة الشعرية المعاصرة:" الواقع أن موضوع الحداثة الشعرية العربية موضوع حساس، لأنه يمس صروحا، شعرية ونقدية، شيدها أصحابها منذ زمن، وأقاموا حولها، من المتاريس والعسس، ما يكفي لقمع أي بادرة تتساءل عن مدى صلابة أو هشاشة الأرضية التي شيدت عليها تلك الصروح. وأنا رجل لا أملك صرحا شعريا أخشى عليه من الجهر بالحقيقة، مهما كانت مرة، كما أنني لا أنوي إقامة صرح نقدي على حساب شعراء هذه الحركة ونقادها، وكل ما في الأمر، هو أني بحكم الاحتكاك المتواصل، قراءة وتدريسا وإشرافا على البحوث الجامعية، تكون لدي اقتناع مفاده أن هذه الحركة قد بدأت تدور حول نفسها، في اتجاه الطريق المسدود.
منذ البداية، كنت أعرف أن أذى كبيرا سينالني، من قبل أولئك الذين اعتادوا أن يتاجروا بالترويج لهذه الحركة والنفخ في رموزها. كنت أعرف مثلا أن أقل ما سأرمى به هو السقوط في السلفية، وأن فشلي على صعيد الإبداع الشعري، من حيث نجح غيري نجاها باهرا، هو السبب في توجهي هذه الوجهة الهدامة."
وبعد أن دافع أحمد المعداوي عن شعر الغربة والضياع في الشعر العربي الحديث على الرغم من الانتقادات الموجهة لهذه التجربة البكائية السلبية المتأثرة بالفلسفة الوجودية، نجد الكاتب يتراجع عن حكمه السابق ليوافق ما ذهب إليه النقاد الذين كانوا يعارضون أطروحته سابقا، وفي هذا الصدد يقول أحمد المعداوي:" والخلاصة التي أحب أن أخرج بها من هذا الفصل هي: لقد جرب الشاعر الحديث أن يتكئ، في رسالته الشعرية، على تجارب الآخر( تجربة الغربة- تجربة الحياة والموت) فوصل إلى الطريق المسدود وجرب أن يعتمد على نفسه فوصل إلى الطريق نفسه".
ويتبين لنا من خلال المقارنة بين كتاب " ظاهرة الشعر الحديث" و"أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث"، أن كتاب أزمة الحداثة أتى ليقوض ما بناه أحمد المعداوي في كتابه " ظاهرة الشعر الحديث"، كأني بالباحث ينتقم من نفسه ومن الآخرين.
ومن ثم، فكتاباه لم يكونا موضوعيين من الناحية العلمية والأكاديمية، بل خضعا لمعايير شخصية و أهواء ذاتية وإيديولوجية تنم عن محاكمة شخصية وتصفية حساب مع منافسيه بطريقة تضر بالعلم والبحث الموضوعي. ويمكن أن نعتبر كل ماقاله أحمد المجاطي هو نوع من المازوشية وتعذيب للذات بسبب ماكان يعانيه من تهميش وإقصاء ونبذ ومحاصرة وتطويق في المغرب وخارجه من قبل من مجموعة من شعراء الحداثة الذين ساروا في الشعر أشواطا كبيرة لاداعي لذكر أسمائهم في هذه الدراسة المتواضعة.
سابعا: اللغـــة الواصفــة
يستعمل أحمد المعداوي في كتابه " ظاهرة الشعر العربي الحديث" لغة بيداغوجية أكاديمية من سماتها: التقرير والمباشرة والبيان البليغ وفصاحة الكلمات واحترام قواعد الإملاء والصرف والنحو. كما تتسم هذه اللغة بقوة الإقناع والحجاج من خلال استعمال أسلوب التعريف وأسلوب الوصف وسرد الوقائع والاستعانة بالمماثلة والمقايسة واللجوء إلى التقويم والحكم وتوظيف آليات الحجاج العقلي والمنطقي كالشرط والافتراض والاستنتاج والاستدلال وإيراد البراهين النقدية والشعرية والشواهد اللغوية والأمثلة المدعمة.
هذا، وتمتاز لغة الكاتب بمواصفات البحث الأكاديمي من خلال تقسيم الكتاب إلى أقسام وفصول ومباحث فرعية متبعا المنهج الاستقرائي تارة والمنهج الاستنباطي تارة أخرى. ويعني هذا إن الوظيفة المهيمنة في الكتاب هي الوظيفة الوصفية التي تتمثل في تبليغ خطابي أدبي نقدي، وتتفرع عنها وظيفة حجاجية إقناعية موجهة إلى القارئ، يروم الباحث من خلالها التأثير على المتلقي وإقناعه إيجابا أو سلبا. وتتسم لغته كذلك بتفاعلها مع اللغة الأدبية واللغة القرآنية واللغة الشعرية ذات الطاقة الإيحائية والشحنة البلاغية.
ثامنا: قيمة الكتاب
لا أحد يشك في قيمة الكتاب المعرفية والأدبية والنقدية والتاريخية، فلا يمكن أن يستغني عنه طالب أو أستاذ أو باحث مهما كان مستواه العلمي والمعرفي. فالكتاب غني بالمعلومات الأدبية والتاريخية والأسطورية، ودسم بالمادة الشعرية و الحيثيات البيوغرافية المتعلقة بالمبدعين والنقاد.
وكل من يحاول التأريخ للشعر العربي الحديث، ويريد معرفة تحقيبه ومراحل تطوراته ومساره الفني والإيديولوجي، فلابد أن يعود عند هذا الكتاب الرائع الثري بكثير من المعطيات الأدبية والنقدية.
ويمكن القول: إن كتاب أحمد المعداوي" ظاهرة الشعر الحديث" خلاصة اجتهادات لما كتب عن الشعر العربي الحديث و المعاصر في المشرق والمغرب كما لدى محمد مندور، و محمد النويهي، ونازك الملائكة، وإحسان عباس، وناجي علوش، وأدونيس، ومحمد بنيس، وعز الدين إسماعيل، وكمال خير بك ، وريتا عوض، وعبد الله راجع...
ومن ثم، ننصح جميع القراء والكتاب ونقاد الشعر الحديث بضرورة الاطلاع على هذا الكتاب القيم ،على الرغم من هناته وعدم موضوعية أحكامه في الكثير من الأحيان، قصد الاستفادة من معطياته وأطروحاته، ولكن عن وعي وقراءة الخلفيات.
بيد أنه لا ينبغي الاكتفاء بهذا الكتاب فقط، ، بل لابد أن نستعين بالكتاب الثاني الذي أراه مكملا للأول ، كما أنه سفر ضروري يجب الاطلاع عليه ألا وهو كتاب " أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث".
خاتمــــــــــة:
يتضح لنا، مما سبق، بأن كتاب " ظاهرة الشعر الحديث" لأحمد المعداوي كتاب يدافع عن الشعر المعاصر أو الشعر الحديث من خلال مقاربات متداخلة تتكئ على التاريخ والتحليل الفني وملامسة القضايا الواقعية وتجريبية التلقي. بيد أن هذه الدراسة تعتمد على منهج القضايا والظواهر لدراسة الشعر العربي الحديث من حيث المضمون والشكل للبحث عن التحولات والتطورات التي حققها هذا الشعر في تعالقه مع واقعه الموضوعي اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا.
وعلى الرغم من قيمة هذا الكتاب من الناحية العلمية والمعرفية والأدبية والتاريخية والنقدية، إلا أنه قد سقط في أحكام تعميمية وخضع لمقاييس ذاتية انطباعية تحت دوافع إيديولوجية ذاتية وشخصية ، والدليل على ذلك تراجع الباحث عن أحكامه النقدية في كتابه" أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث" الذي قوض كل النتائج التي توصل إليها الكاتب في كتابه السابق" ظاهرة الشعر الحديث".
وعليه، فنحن نستغرب أيما استغراب لماذا التجأ أحمد المعداوي إلى هذه الطريقة التي دمر فيها كتابه الأول وقوض دعائم رسالته الجامعية ، وشكك في شاعريته وحطم مذهبه الشعري الذي عاش من أجله سنوات وسنوات؟! فهل تحطيمه لرؤوس الحداثة الشعرية والحركة الشعرية المعاصرة في كتابه " أزمة الحداثة" كانت وراءه دوافع شخصية ذاتية أو دوافع سياسية وإيديولوجية، أو أن هذا التراجع عن نتائج الكتاب الأول هو نوع من المصداقية العلمية والاعتراف بالخطإ أو هو نوع من المازوشية والهستيريا الذاتية لتحطيم الذات داخليا أو تحطيم الغير الناجح؟!
المصـــــادر:
- موقع باك 20 www.bac20.com
أحمد المعداوي: ظاهرة الشعر الحديث، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، ط2، 2007م؛
- أحمد المعداوي: أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، ، منشورات دار الآفاق الجديدة، المغرب، ط1، 1993م؛
- أحمد المجاطي: الفروسية، ديوان شعر، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، ط1 ، 1987م ، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء؛ وقد تولت مجلة "المشكاة" التي يصدرها الشاعر حسن الأمراني جمع الديوان بين دفتيها في العدد 24 سنة 1996م من الصفحة 81 إلى الصفحة 124؛
- محمد بنيس: ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب، المركز الثقافي العربي، بالدار البيضاء، ط2 ، 1985م؛
- أحمد المعداوي: أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، صص:145-223؛
- أحمد المعداوي، ظاهرة الشعر الحديث، ص:6؛
- نفس المرجع، ص:17؛
- نفس المرجع السابق، ص:18؛
- نفسه، ص:21؛
- نفس المرجع السابق، ص:33؛
- محمود أمين العالم وعبد العظيم أنس: في الثقافة المصرية، دار الكتب العصرية 1955م، ص:78؛
- أحمد المعداوي: ظاهرة الشعر الحديث، ص:34؛
- نفس المرجع السابق، ص:44؛
- نفس المرجع، ص:52-53؛
- نفس المرجع، ص:60-61؛
- إحسان عباس: عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث، دار بيروت لبنان، ط 1 ، 1955، ص:50؛
- أحمد المعداوي: ظاهرة الشعر الحديث، ص:82؛
- نفس المرجع السابق، ص:83؛
- نفس المرجع، ص:95؛
- نفس المرجع السابق، ص:104-105؛
- أحمد المعداوي: أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، ص:217؛
- أحمد المعداوي: ظاهرة الشعر الحديث، ص:113؛
- نفس المرجع، ص:116؛
- نفس المرجع السابق، ص:171؛
- نفسه، ص:190؛
- نفس المرجع السابق، ص:193؛
- نفسه، ص:216-217؛
- نفس المرجع السابق، ص:228؛
- نفس المرجع، ص:239؛
- نفس المرجع السابق، ص:244؛
- نفس المرجع، ص:192؛
- نفس المرجع، ص:56-57؛
- انظر عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، الجزء الأول، مكتبة المعارف بالرباط،؛
- عباس الجراري: نفس الكتاب، ص:9؛
- أحمد المعداوي: ظاهرة الشعر الحديث، ص:56( الهامش)؛
- أحمد المعداوي: ظاهرة الشعر الحديث، ص:231( الهامش) ؛
- أحمد المعداوي: أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، ص:255؛
- نفس المرجع السابق، ص:217.